كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين}..
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين. حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعاً. عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة:
{إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}..
فهو مُنبتٌّ منك وأنت منبت منه، ولو كان ابنك من صلبك، فالعروة الأولى مقطوعة، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة.
ولأن نوحاً دعا دعاء من يستنجز وعداً لا يراه قد تحقق.. كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد:
{فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين}..
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط، أو حقيقة وعد الله وتأويله، فوعد الله قد أُول وتحقق، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق.
ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه، فيلجأ إليه، يعوذ به، ويطلب غفرانه ورحمته:
{قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفرلي وترحمني أكن من الخاسرين}..
وأدركت رحمة الله نوحاً، تطمئن قلبه، وتباركه هو والصالح من نسله، فأما الآخرون فيمسهم عذاب أليم:
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم}..
وكانت خاتمة المطاف: النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته؛ والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم.. ذات البشرى وذات الوعيد، اللذان مرا في مقدمة السورة. فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود..
ومن ثم يجيء التعقيب:
{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين}.
فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة:
حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه النبي، وما كان معلوماً لقومه، ولا متداولاً في محيطه. إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير.
وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني. فهي هي. والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير.
وحقيقة تكرارالإعتراضات والإتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلاً أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل.
وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ.
وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: {والعاقبة للمتقين}.. فهم الناجون وهم المستخلفون.
وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل.. إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك.
وبعد.. أكان الطوفان عاماً في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ اسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً؛ وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح.. وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل.
ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان. وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين. وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها فيما عدا ركب السفينة الناجين.
وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد السحيق، الذي لا يعرف التاريخ عنه شيئاً. وإلا فيومها أين كان التاريخ؟! إن التاريخ مولود حدثٌ لم يسجل من أحداث البشرية إلا القليل! وكل ما سجله قابل للخطأ والصواب، والصدق والكذب، والتجريح والتعديل! وما ينبغي قط أن يستفتى ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق. ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع، وانتكاسه لا تصيب عقلاً قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين!
ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول، بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير.. وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه العهد القديم تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح.. ولكن هذا كله شيء لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان؛ ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد. وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام؛ أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد..
وينبغي أن نذكر أن ما يسمى بالكتاب المقدس سواء في ذلك العهد القديم المحتوي على كتب اليهود أو العهد الجديد المحتوي على أناجيل النصارى ليس هو الذي نزل من عند الله. فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود. ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون وقد كتبها عزرا وقد يكون هو عزير وجمع فيها بقايا من التوراة. أما سائرها فهو مجرد تأليف! وكذلك الأناجيل فهي جميعاً لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح عليه السلام ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير!.. ومن ثم لايجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور!
ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم.. وهي في الحقيقة عبر شتى، لا عبرة واحدة.
وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية، قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة هود:
إن قوم نوح- عليه السلام هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم، ومدى إصرارهم على باطلهم، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح عليه السلام إليهم، وخلاصتها: التوحيد الخالص الذي يفرد الله سبحانه بالدينونة والعبودية؛ ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية..
إن قوم نوح هؤلاء.. هم ذرية آدم.. وآدم كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل وفي سورة البقرة كذلك قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها وهي المهمة التي خلقها الله لها وزوده بالكفايات والإستعدادات اللازمة لها بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها. وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق هو وزوجه وبنوه أن {يتبع} ما يأتيه من هدى الله، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين.
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلماً لله متبعاً هداه.. وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلاً بعد جيل؛ وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض؛ حيث لم تكن معها عقيدة أخرى! فإذا نحن رأينا قوم نوح وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله قد صاروا إلى هذه الجاهلية التي وصفتها القصة في هذه السورة فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعاً. وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم؛ وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية. تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله، واتباعه وحده، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة.. ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدراً من الاختيار هو مناط الابتلاء وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه، كما يملك أن ينحرف ولو قيد شعرة عن هدى الله إلى تعاليم غيره؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به بعد أشواط- إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم النبي المسلم بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله.
وهذه الحقيقة.. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده.. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم علماء الأديان المقارنة وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طوراً متاخراً من أطوار العقيدة.
سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنيه للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح، وتأليه الشموس والكواكب.. إلى آخر ما تخبط فيه هذه البحوث التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة؛ يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر؛ وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان!
وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين؛ فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان وفق ذلك المنهج الموجه! من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الإعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحاً عليه السلام واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه.. القائم على التوحيد المطلق.. وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية؛ وأن الرسل جميعاً أرسلوا بعد ذلك بالإسلام.. القائم على التوحيد المطلق.. وإنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الإعتقاد إنما كان الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة. إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية حتى بعد انجراف الأجيال عنها ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها؛ حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعاً! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت، لأنها ليست نابعة من أفكار البشرومعلوماتها المترقية؛ إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه. فهي حق منذ اللحظة الأولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى..
هذا ما يقرره القرآن الكريم؛ ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال إذن لباحث مسلم وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام! أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا!
ومع أننا هنا في ظلال القرآن لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل.. ولكننا بنموذج واحد، نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية..
كتب الأستاذ العقاد في كتابه: الله في فصل أصل العقيدة: ترقى الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات.
فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات. لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما يفسر الألغاز والأحلام. ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام. ولعلها لا تزال.
فالرجوع إلى أصل الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد؛ وأن الناس يستعدون لعرفانها عصراً بعد عصر، وطوراً بعد طور. واسلوباً بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة. فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديداً في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال....
كذلك كتب في فصل: أطوار العقيدة الإلهية في الكتاب نفسه: يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاث أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب:
وهى دور التعدد Polytheism
ودور التمييز والترجيح Henotheism
ودور الوحدانية Monotheism
ففى دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أرباباً تعد بالعشرات، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات. ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده، أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور، وتقبل الصلوات والقرابين.
وفى الدور الثانى وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها، ويأخذ رب منها في البروز والرجحان على سائرها.